الأعجوبة
دير المخلّص وتبدو خلفه بلدة جون
ضاقت دار المطرانيّة في صيدا بالرهبان الجدد، وقد تكاثروا بنعمة الربّ، فراح المطران أفتيميوس الصيفيّ يعمل على إيجاد مقرٍّ يكون مهدًا لجمعيّته الناشئة. وشاءت عناية الربّ أن تُرسل لعبده علامة ترشده إلى ما كان يبتغيه. ففي ربيع سنة 1685، كان المطران يتفقّد أبرشيّته الصيداويّة، ولمّا وصل إلى قرية جون في الشوف، توافد أهل القرى المجاورة للسلام عليه، يحملون بنادقهم تحسّبًا للعصابات المنتشرة بكثرة في تلك الأيّام. وكان مع أحدهم بندقيّة من طراز جديد ذات ديك فولاذيّ. فأخذها الشمّاس أثناسيوس نصر المرافق للمطران، وجعل يتفحّصها، فلمسَ إصبعه الديك عرَضًا. عندها انطلق الرصاص واستقرّ في صدر الكاهن إبراهيم الطوطو الواقف بإزائه، فسقط على الأرض. وحالما سمع المطران طلق البندقيّة، ردّد بإيمانٍ الهتافَ الذي كان يصعّده عادةً: “يا مخلّص العالم”. وركض مع الحاضرين نحو الكاهن المصاب يسأله عن حاله، وإذا به يسمع جواب الكاهن: “لا تخف يا معلّمي، أنا طيّب”. ونزعوا ثيابه، فوجدوا الخردق متجمّعًا فوق صدره دون أن يؤذيه. وقد رأى المطران في هذه الأعجوبة إشارة من السماء ليبني في تلك المنطقة ديرًا لرهبانه على اسم المخلّص. واختار مزرعة مشموشة على تلّة شرقيّ جون لتكون مقرًّا للدير.
البناء الأول
ممشى التأسيس
تستريح مزرعة مشموشة، القريبة من بلدة جون، على رأس تلّة يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 450 مترًا. واسم “مشموشة” هو تحريف لكلمة “مِشمسِة”، أيّ أنّ الشمس لا تغيب عنها طوال النهار. ودُعيت “بالتحتا”، تمييزًا لها عن “مشموشة الفوقا” الواقعة في منطقة جزّين، والتي عليها بُني أيضًا دير تابع للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة.
إستأجر المطران المزرعة المذكورة من صاحبها الشيخ قبلان القاضي، وسكنَ فيها مع رهبانه ابتداءً من سنة 1701. وحصل على إذنٍ من الأمير حيدر شهاب، وثبّته في المحكمة الشرعيّة في صيدا، ونال منها تصريحًا سنة 1710 لترميم المزرعة تحت اسم “مأوى الرهبان ومخبأ لمعدّات الحراثة وملجأ لأبناء السبيل وعابري الطريق من كلّ ملّة”. هكذا قام البناء الأوّل لدير المخلّص، عامّ 1711، والذي شيّده الرهبان بأيديهم، وهو يتألّف من طابقَين من العقد يمتدّان طولاً من الشرق إلى الغرب، ويحويان صفَّين متقابلَين من الغرف، يفصل بينهما ممرّ، وهو ما يسمّى اليوم “ممشى التأسيس” في الطابق الأرضيّ، و”ممشى الطاعة” في الطابق الأوّل (كونه يحوي جرس الطاعة).
أقسام الدير الحاليّة
* ممشى التأسيس: بنى المؤسّس وتلاميذه هذا الجناح سنة 1711، واستُعملَت غرفه كقلالي (القلاّية هي غرفة الراهب الصغيرة). في أواخر الستّينات من القرن الماضي، وتحت إشراف مديريّة الآثار، تمّ قلش جدرانه، وفُتحت واجهات غُرفه، وتحوّلت إلى متحف أثريّ يروي للزائر الخطوات الكبرى لتأسيس الدير. وعلى أثر التهجير سنة 1985، فُقدت الآثار التي كانت معروضة في الممشى.
الكنيسة الكبرى
الكنيسة الكبرى: حالما انتهى الرهبان من تجهيز جناح التأسيس، شرعوا ببناء الكنيسة الكبرى. وبما أنّ بناء الكنائس كان بحاجة في ذلك الزمان إلى إذنٍ شرعيّ من المحاكم الإسلاميّة، تقدّم المؤسّس بطلب ترميم أبنية قديمة في المزرعة على أنّها معالم عبادة مسيحيّة مندثرة. وحصل على حكم سنة 1716 يسمح له بالبناء. وفي سنة 1717 باشر الرهبان العمل، واختاروا أعلى نقطة من المزرعة، فارتفعت بقوّة سواعدهم سنة 1721 كنيسة تضاهي كبريات كنائس الشرق ضخامة وجمالاً، وكُرِّس هيكلها الكبير على اسم التجلّي الذي يُحتفَل به في 6 آب من كلّ سنة. وعلى أثر زلزال 1956، قامت مديريّة الآثار في أواسط الستّينات بترميم وقلش جدران الكنيسة، وانتهت الأعمال فيها سنة 1967. وبدت كما هي عليه اليوم بكامل بهائها وخشعتها وروعة هندستها.
أقسام الكنيسة
أقسام الكنيسة: تنتمي الكنيسة إلى الفنّ البيزنطيّ، وتبلغ مساحتها حوالي 400 متر مربّع. طولها 26.50 م.، وعرضها 14.40، وارتفاع رواق الوسط 10.50 م.، والرواقَين الجانبيّين 7.50 م.
– القناطر الجنوبيّة ومدخل الكنيسة: بُنيت هذه القناطر سنة 1737 كدعائم للكنيسة بعد تعرّضها للزلزال، وفُتح المدخل الجنوبيّ سنة 1851، وزُيِّن بزخرفة رخاميّة، وباب من خشب القطران.
– الإيقونستاس: ارتفع القسم الأوسط منه سنة 1759، وهو من الرخام الإيطاليّ المطعَّم بالزخرفات العربيّة. وأُكملَت الأقسام الجانبيّة عن يمينه ويساره، سنة 1850. وكُرِّس الهيكل الشماليّ للسيّدة العذراء، والهيكل الجنوبيّ للقدّيس يوسف. يعلو الإيقونستاس منجور من خشب الجوز المطعَّم بنواة خشب الليمون، وهو من شغل المعلّم الدمشقيّ جرجي بيطار، حوالي سنة 1880، ويعود حفر أجزاء إيقونات “التوسّل” (أي أيقونات مريم العذراء ويوحنّا الحبيب) والصلبان الثلاثة المرتفعة بينها والتي تعلو الإيقونستاس، إلى الفنّان الإيطاليّ غبريالو. أمّا الإيقونات التي تزيّن الإيقونستاس، فهي بغالبيّتها من الفنّ الأنطاكيّ الأورشليميّ البيزنطيّ، وتعود إلى ما بعد نكبة 1860.
منجور الكنيسة
– منجور الكنيسة: حفر الأب يوحنّا بيطار ب.م.، وهو ابن المعلّم جرجي بيطار السابق ذكره، عرش الرئيس العامّ مع كراسي الخورص والفاصل الخشبيّ. أمّا المنبر (“الأمبون”)، الذي يُتلى عليه الإنجيل المقدّس، فالجزء الرخاميّ منه إيطاليّ المنشأ، أمّا الدرج الخشبيّ المطعَّم فقد اشتغله الأب يوسف الشامي ب.م.، سنة 1883، تحت إشراف المعلّم جرجي بيطار.
الثريات
– ثريّا نابوليون: إنّها الثريّا التي تزّين وسط الكنيسة، وقد قدّمها الأمبراطور الفرنسيّ نابوليون الثالث. سُرقَت في أحداث سنة 1985، وأُعيد شراؤها بعيد الرجوع إلى الدير من بعد سني التهجير. أمّا الثريّات المعلّقة أمام الهيكل، فهي من الأوبالين الثمين.
الاقسام الباقية
– المدخل الغربيّ للكنيسة: بُنيت القناطر أمام المدخل سنة 1833 لتدعيم الكنيسة. ونجد فوق الباب الغربيّ كتابتَين: العُليا باللغة العربيّة تحمل هذا الشعر المؤرَّخ بالسنة الهجريّة:
لله لا لسواه هذا المقام بناه
أفتيميوس المسيحيّ نال نيل مناه
على اسم يسوع كلمة ربّ جلّ علاه
ثلاثين وماية بعد الألف جدّدناه
في عدالة أمريّة حيدر الشهابيّ
وهمّة قبلان سليل القاضي
وكتابة ثانية فوق الباب مباشرة تحمل صلاةً باللغة اليونانيّة، هذا تعريبها: “ملكك أيّها المسيح مُلكُ جميع الدهور، وسيادتك إلى جيل وجيل، يا مَن تجسّد من الروح القدس”.
– برج الكنيسة: ارتفع فوق الكنيسة سنة 1903، ويبلغ علوّه 16.50 م.، وجُهِّز بساعة ميكانيكيّة (سنة 1904) عطّلتها العوامل الطبيعيّة، فاستُبدلَت بأخرى إلكترونيّة سنة 1999.
– معبد القدّيس أنطونيوس البدواني: بُنيت هذه الكابيلاّ سنة 1752، وهي تقع في القسم الجنوبيّ داخل الكنيسة الكبرى. وثمّة تقليد في الدير أن يُدفَن تحت مذبحها المطارنة المخلّصيّون.
مدخلان للدير
– المدخل الغربيّ: جُدِّد هذا المدخل بعد بناء دار الضيوف سنة 1892، واقتصر استعماله على الاحتفالات الدينيّة والمناسبات الرسميّة.
– المدخل الشماليّ: هو المدخل العاديّ للدير، وما زلنا نرى حتّى اليوم بقايا سبيل الماء وبعض الخرزات المخصّصة لسرج الأحصنة. يعود تجديد بناء هذا المدخل إلى سنة 1794، أي بعد النكبتَين اللّتَين حلّتا بالدير (1777 و 1792) على يد جنود أحمد باشا الجزّار والي عكّا، أثناء محاربتهم الأمراء الشهابيّين حكّام الجبل.
بئر قزما
منذ التأسيس كان الرهبان يؤمّنون حاجتهم من المياه بنقلها على ظهور الدواب من نهر الأوّليّ، الذي يبعد عن الدير مسافة ساعتَين سيرًا على الأقدام. لكنّ هذا العمل الشاقّ انتهى بفضل شابٍّ اسمه قزما، أتى من ديار بكر (في تركيّا) قاصدًا الترهّب. فهو الذي قام بحفر هذا البئر لجمع مياه الشتاء فيه، وقد دُعي باسمه. وكان ذلك سنة 1775، كما يظهر من التاريخ المحفور على واجهته. وقد توفّرت المياه في الدير، عندما جرّ إليه الرهبان ماء النبع الكائن في أملاكهم في الجليليّة سنة 1897. وتحوّل البئر المذكور إلى برّاد طبيعيّ تمرّ فيه أنابيب مياه الشفة، فتحافظ على برودتها وتروي ظمأ كلّ عطشان.
* الجناح الشرقيّ: بُني هذا القسم على ثلاث مراحل:
– الطابق الأرضيّ: يُعرَف باسم “القاعات الشرقيّة”، بُني سنة 1792، وهو اليوم مكاتب لإدارة الدير والقيّميّة العامّة وصالون للاستقبال. كما كان يضمّ فُرنًا يؤمّن الخبز اليوميّ لجمهور الدير والمدرسة، ومحترَفًا لتصليح الأحذية.
– الطابق الأوّل: ويُعرف باسم “ممشى بولاد”، وهو اسم عائلة الأب أنطون بولاد الدمشقيّ التي تبرّعت ببنائه، وقد بُني سنة 1835، وخُصِّصت غرفه لمنامة الرهبان.
– الطابق الثاني: بُني سنة 1938، بعد أن تكاثر عدد الرهبان، وجُدِّد سنة 1993، وقُسِّم إلى طابقَين، وروعيت في تجديده مستلزمات الحياة العصريّة.
* سطح المَرْيَسِيّة: وهي فسحة واسعة تقع جنوبيّ الكنيسة، شُيِّد على طرفها الشرقيّ سنة 1892 الجناح المخصَّص لإقامة الرئيس العامّ والآباء المدبّرين، إلاّ أنّ الزلزال الذي ضرب الدير في آذار 1956، قضى عليه، فبقي الاسم فقط.
* صالون الرئاسة: بُني سنة 1832، على غرار هندسة قصر بيت الدين. كان قديمًا مخصَّصًا للاستقبالات الرسميّة.
* صالون المطران سابا: هو الصالون الرسميّ الحاليّ للدير، تبرّع ببنائه المطران سابا يواكيم، سنة 1998، ويُفتَح في الاحتفالات والمناسبات والأعياد الكبرى.
* دار البِكْتي: ارتفعت هذه الدار سنة 1811، وهي تحمل اسم عائلة الأب تيموثاوس البكتي الدمشقيّ التي تبرّعت به، وخُصِّصت أوّلاً للضيوف من مطارنة وبطاركة.
* ممشى البطريرك بحّوث: بُني سنة 1849، ودُعي على اسم البطريرك اكليمنضوس بحّوث الذي كانت غرفته فيه، بعد أن استقال من البطريركيّة وأتى الدير يقضي فيه آخر سني حياته ناسكًا متعبّدًا قشفًا. جُدِّد هذا الممشى سنة 1994 ليكون جناحًا للرئاسة العامّة والهيأة القانونيّة.
المطبعة المخلّصيّة ومنشوراتها
تأسّست المطبعة المخلّصيّة الأولى في بيروت سنة 1865، لكنّها توقّفت سنة 1912. ثمّ نُقلت إلى الدير، وعادت إلى العمل سنة 1928 بعد تجهيزها، وأخذت تتوسّع وتتطوّر بالمعدّات الحديثة، وكان آخرها شراء مطبعة أوتوماتيكيّة سنة 1952، ممّا ساهم أكثر فأكثر في شهرتها وازدهارها. توقّفت عن العمل في بداية حوادث سنة 1975. وكانت منشوراتها تتوزّع بين الكتب الطقسيّة والموسيقيّة، وكتب التاريخ والأدب مع مؤلّفات كثيرة في المجالات الروحيّة والاجتماعيّة، ومن المجلاّت التي كانت تصدرها: “الرسالة المخلّصيّة”، “الوحدة في الإيمان” و”النحلة”.
المكتبة المخلّصيّة
تأسّست في أواخر القرن السابع عشر، وتعود في نواتها إلى كتب المطران أفتيميوس الصيفيّ ورهبانه الأوّلين. ثمّ بدأت تتوسّع وتزدهر حتّى حوت الكتب الدينيّة والعلميّة والأدبيّة بمختلف اللغات القديمة والحديثة. وقد أدّت المكتبة المخلّصيّة منذ تأسيسها دورًا هامًّا في نشر العلم والثقافة، وذلك لغناها بالمخطوطات القديمة (حوالي 3000 مخطوط) والكتب القيّمة والمجلاّت المتنوّعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّها سُرقت وأُحرقَت أكثر من مرّة عبر التاريخ، خصوصًا سنة 1860. كما تمّت مصادرتها خلال تهجير سنة 1985، لكنّها أعيدت إلى الدير مع عودة الرهبان إليه. من أهمّ كتبها: كتاب مشاهير الرجال لبلوتارك، المطبوع سنة 1496، أي بعد اختراع أوّل مطبعة على يد غوتنبرغ. كتاب الإنجيل الشريف، المطبوع في روما سنة 1590، وهو أوّل طبعة عربيّة للإنجيل.
* معصرة الزيتون: شُيِّد لها بناء خاصّ سنة 1929. جُدِّدت سنة 1980، وجُهِّزَت بآلات حديثة أوتوماتيكيّة إيطاليّة. وهي تؤمّن اليوم عصر الزيتون منتجة الزيت الفاخر، الذي يُعدّ أحد أهمّ منتوجات الدير.
* دار الضيوف: بُنيت سنة 1829، وجُدِّدت سنة 1892، وخُصِّصَت للضيوف. إنّها أحد رموز دير المخلّص التي من أجلها دُعي بـ”العامر“، وذلك لحسن استقباله للزوّار واستضافته لهم، لاسيّما اهتمامه بالفقراء واللاّجئين إبّان الحربين العالميّتَين الكبريين ونكبة فلسطين والحرب اللبنانيّة.
قاعة الموسيقى
كانت قبلاً مستودَعًا لدبس الخرّوب والزيت والمؤنة، وكانت تُدعى “قبو الدبس”. وقد تمّ تحويلها سنة 1996 إلى قاعة للموسيقى، بهمّة الأب مكاريوس هيدموس ب.م.، بعد قلشها وتكحيلها ومن ثمّ تجهيزها بالآلات الموسيقيّة والكتب المتخصّصة، وهي تُستخدَم حاليًّا لتسجيل اسطوانات الترانيم البيزنطيّة والأغاني الدينيّة الحديثة.
* الوصول إلى الدير: سنة 1925، وصلت طريق السيّارات إلى المدخل الشرقيّ للدير، وذلك بهمّة الرهبان وأهل الجوار. وقبلاً كان يتمّ الوصول إليه من الجهة الغربيّة عبر طريق مرصوفة بالحجارة، على غرار الطرق الرومانيّة القديمة. وهاك خريطة توضّح الطرق المؤدّية إلى الدير.